سورة الأنبياء - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنبياء)


        


{وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) وَإِذَا رَآَكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آَلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36)}
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما استدل بالأشياء الستة التي شرحناها في الفصل المتقدم وكانت تلك الأشياء من أصول النعم الدنيوية أتبعه بما نبه به على أن هذه الدنيا جعلها كذلك لا لتبقى وتدوم أو يبقى فيها من خلقت الدنيا له، بل خلقها سبحانه وتعالى للإبتلاء والامتحان، ولكي يتوصل بها إلى الآخرة التي هي دار الخلود.
فأما قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مّن قَبْلِكَ الخلد} ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: قال مقاتل: أنا أناساً كانوا يقولون إن محمداً صلى الله عليه وسلم لا يموت فنزلت هذه الآية.
وثانيها: كانوا يقدرون أنه سيموت فيشمتون بموته فنفى الله تعالى عنه الشماتة بهذا أي قضى الله تعالى أن لا يخلد في الدنيا بشراً فلا أنت ولا هم إلا عرضة للموت أفائن مت أنت أيبقى هؤلاء لا وفي معناه قول القائل:
فقل للشامتين بنا أفيقوا *** سيلقى الشامتون كما لقينا
وثالثها: يحتمل أنه لما ظهر أنه عليه السلام خاتم الأنبياء جاز أن يقدر مقدر أنه لا يموت إذ لو مات لتغير شرعه فنبه الله تعالى على أن حاله كحال غيره من الأنبياء عليهم السلام في الموت.
أما قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموت} ففيه أبحاث:
البحث الأول: أن هذا العموم مخصوص فإنه تعالى نفس لقوله: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116] مع أن الموت لا يجوز عليه وكذا الجمادات لها نفوس وهي لا تموت، والعام المخصوص حجة فيبقى معمولاً به فيما عدا هذه الأشياء، وذلك يبطل قول الفلاسفة في أن الأرواح البشرية والعقول المفارقة والنفوس الفلكية لا تموت.
والثاني: الذوق هاهنا لا يمكن إجراؤه على ظاهره لأن الموت ليس من جنس المطعوم حتى يذاق بل الذوق إدراك خاص فيجوز جعله مجازاً عن أصل الإدراك، وأما الموت فالمراد منه هاهنا مقدماته من الآلام العظيمة لأن الموت قبل دخوله في الوجود يمتنع إدراكه وحال وجوده يصير الشخص ميتاً ولا يدرك شيئاً.
والثالث: الإضافة في ذائقة الموت في تقدير الإنفصال لأنه لما يستقبل كقوله: {غَيْرَ مُحِلّى الصيد} [المائدة: 1]، و{هَدْياً بالغ الكعبة} [المائدة: 95].
أما قوله تعالى: {وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} ففيه مسائل:
المسألة الأولى: الابتلاء لا يتحقق إلا مع التكليف، فالآية دالة على حصول التكليف وتدل على أنه سبحانه وتعالى لم يقتصر بالمكلف على ما أمر ونهى وإن كان فيه صعوبة بل ابتلاه بأمرين: أحدهما: ما سماه خيراً وهو نعم الدنيا من الصحة واللذة والسرور والتمكين من المرادات.
والثاني: ما سماه شراً وهو المضار الدنيوية من الفقر والآلام وسائر الشدائد النازلة بالمكلفين، فبين تعالى أن العبد مع التكليف يتردد بين هاتين الحالتين، لكي يشكر على المنح ويصبر في المحن، فيعظم ثوابه إذا قام بما يلزم.
المسألة الثانية: إنما سمي ذلك ابتلاء وهو عالم بما سيكون من أعمال العالمين قبل وجودهم لأنه في صورة الاختبار.
المسألة الثالثة: قال صاحب الكشاف: {فِتْنَةً} مصدر مؤكد لنبلوكم من غير لفظه.
المسألة الرابعة: احتجت التناسخية بقوله: {وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} فإن الرجوع إلى موضع مسبوق بالكون فيه.
والجواب: أنه مذكور مجازاً.
المسألة الخامسة: المراد من قوله: {وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} أنهم يرجعون إلى حكمه ومحاسبته ومجازاته، فبين بذلك بطلان قولهم في نفي البعث والمعاد، واستدلت التناسخية بهذه الآية، وقالوا: إن الرجوع إلى موضع مسبوق بالكون فيه، وقد كنا موجودين قبل دخولنا في هذا العالم واستدلت المجسمة بأنا أجسام، فرجوعنا إلى الله تعالى يقتضي كون الله تعالى جسماً.
والجواب عنه قد تقدم في مواضع كثيرة.
أما قوله تعالى: {وَإِذَا رَاكَ الذين كَفَرُواْ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هزؤاً} قال السدي ومقاتل: نزلت هذه الآية في أبي جهل مر به النبي صلى الله عليه وسلم وكان أبو سفيان مع أبي جهل، فقال أبو جهل لأبي سفيان: هذا نبي بني عبد مناف، فقال أبو سفيان: وما تنكر أن يكون نبياً في بني عبد مناف. فسمع النبي صلى الله عليه وسلم قولهما فقال لأبي جهل: «ما أراك تنتهي حتى ينزل بك ما نزل بعمك الوليد بن المغيرة، وأما أنت يا أبا سفيان: فإنما قلت ما قلت حمية» فنزلت هذه الآية، ثم فسر الله تعالى ذلك بقوله: {أهذا الذي يَذْكُرُ ءَالِهَتَكُمْ} والذكر يكون بخير وبخلافه، فإذا دلت الحال على أحدهما أطلق ولم يقيد كقولك للرجل سمعت فلاناً يذكرك، فإن كان الذاكر صديقاً فهو ثناء، وإن كان عدواً فهو ذم، ومنه قوله تعالى: {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إبراهيم} [الأنبياء: 60] والمعنى أنه يبطل كونها معبودة ويقبح عبادتها.
وأما قوله تعالى: {وَهُمْ بِذِكْرِ الرحمن هُمْ كافرون} فالمعنى أنه يعيبون عليه ذكر آلهتهم التي لا تضر ولا تنفع بالسوء، مع {أَنَّهُمْ بِذِكْرِ الرحمن} الذي هو المنعم الخالق المحيي المميت {كافرون} ولا فعل أقبح من ذلك، فيكون الهزؤ واللعب والذم عليهم يعود من حيث لا يشعرون، ويحتمل أن يراد {بِذِكْرِ الرحمن} القرآن والكتب، والمعنى في أعادة (هم) أن الأولى إشارة إلى القوم الذين كانوا يفعلون ذلك الفعل، والثانية إبانة لاختصاصهم به، وأيضاً فإن في أعادتها تأكيداً وتعظيماً لفعلهم.


{خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41)}
أما قوله تعالى: {خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ} ففيه مسائل:
المسألة الأولى: في المراد من الإنسان قولان:
أحدهما: أنه النوع، والثاني: أنه شخص معين.
أما القول الأول فتقريره أنهم كانوا يستعجلون عذاب الله تعالى وآياته الملجئة إلى العلم والإقرار: {وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد} [الملك: 25] فأراد زجرهم عن ذلك، فقدم أولاً ذم الإنسان على إفراط العجلة ثم نهاهم وزجرهم كأنه قال: لا يبعد منكم أن تستعجلوا فإنكم مجبولون على ذلك وهو طبعكم وسجيتكم، فإن قيل: مقدمة الكلام لابد وأن تكون مناسبة للكلام، وكون الإنسان مخلوقاً من العجل يناسب كونه معذوراً فيه فلم رتب على هذه المقدمة قوله: {فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ} قلنا: لأن العائق كلما كان أشد، كانت القدرة عليه مخالفته أكمل، فكأنه سبحانه نبه بهذا على أن ترك الاستعجال حالة شريفة عالية مرغوب فيها.
أما القول الثاني: وهو أن المراد شخص معين فهذا فيه وجهان:
أحدهما: أن المراد آدم عليه السلام، وهو قول مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والسدي والكلبي ومقاتل والضحاك، وروى ابن جريج وليث بن أبي سليم عن مجاهد قال: خلق الله آدم عليه السلام بعد كل شيء من آخر نهار الجمعة، فلما دخل الروح رأسه ولم يبلغ أسفله، قال: يا رب استعجل خلقي قبل غروب الشمس، قال ليث: فذلك قوله تعالى: {خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ} وعن السدي لما نفخ فيه الروح فدخل في رأسه عطس، فقالت له الملائكة: قل الحمد لله، فقال ذلك: فقال الله له: يرحمك ربك.
فلما دخل الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة، ولما دخل الروح في جوفه اشتهى الطعام، فوثب قبل أن تبلغ الروح رجليه إلى ثمار الجنة.
وهذا هو الذي أورث أولاده العجلة.
وثانيهما: قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عطاء: نزلت هذه الآية في النضر بن الحرث والمراد بالإنسان هو، واعلم أن القول الأول أولى لأن الغرض ذم القوم، وذلك لا يحصل إلا إذا حملنا لفظ الإنسان على النوع.
المسألة الثانية: من المفسرين من أجرى هذه الآية على ظاهرها ومنهم من قلبها، أما الأولون فلهم فيها أقوال: أحدها: قول المحققين وهو أن قوله: {خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ} أي خلق عجولاً، وذلك على المبالغة كما قيل للرجل الذكي: هو نار تشتعل، والعرب قد تسمي المرء بما يكثر منه فتقول: ما أنت إلا أكل ونوم، وما هو إلا إقبال وإدبار، قال الشاعر:
أما إذا ذكرت حتى إذا غفلت *** فإنما هي إقبال وإدبار
وهذا الوجه متأكد بقوله تعالى: {وَكَانَ الإنسان عَجُولاً} [الإسراء: 11] قال المبرد: {خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ} أي من شأنه العجلة كقوله: {خَلَقَكُمْ مّن ضَعْفٍ} [الروم: 54] أي ضعفاء.
وثانيها: قال أبو عبيد: العجل الطين بلغة حمير وأنشدوا:
والنخل يثبت بين الماء والعجل ***
وثالثها: قال الأخفش: (من عجل) أي من تعجيل من الأمر وهو قوله كن.
ورابعها: من عجل، أي من ضعف عن الحسن.
أما الذين قلبوها فقالوا المعنى: خلق العجل من الإنسان، كقوله: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ عَلَى النار} [الأحقاف: 20] أي تعرض النار عليهم والقول الأول أقرب إلى الصواب وأبعد الأقوال هذا القلب لأنه إذا أمكن حمل الكلام على معنى صحيح وهو على ترتيبه فهو أولى من أن يحمل على أنه مقلوب، وأيضاً فإن قوله: خلقت العجلة من الإنسان فيه وجوه من المجاز. فما الفائدة في تغيير النظم إلى ما يجري مجراه في المجاز.
المسألة الثالثة: لقائل أن يقول: القوم استعجلوا الوعد على وجه التكذيب ومن هذا حاله لا يكون مستعجلاً على الحقيقة.
قلنا: استعجالهم على هذا الوجه أدخل في الذم لأنه إذا ذم المرء استعجال الأمر المعلوم فبأن يذم على استعجال ما لا يكون معلوماً له كان أولى، وأيضاً فإن استعجالهم بما توعدهم من عقاب الآخرة أو هلاك الدنيا يتضمن استعجال الموت وهم عالمون بذلك فكانوا مستعجلين في الحقيقة.
أما قوله تعالى: {سأريكم ءاياتى فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ} فقد اختلفوا في المراد بالآيات على أقوال: أحدها: أنها هي الهلاك المعجل في الدنيا والعذاب في الآخرة، ولذلك قال: {فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ} أي أنها ستأتي لا محالة في وقتها.
وثانيها: أنها أدلة التوحيد وصدق الرسول.
وثالثها: أنها آثار القرون الماضية بالشام واليمن والأول أقرب إلى النظم.
أما قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صادقين} فاعلم أن هذا هو الاستعجال المذموم المذكور على سبيل الاستهزاء وهو كقوله: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَاءهُمُ العذاب} [العنكبوت: 53] فبين تعالى أنهم يقولون ذلك لجهلهم وغفلتهم، ثم إنه سبحانه ذكر في رفع هذا الحزن عن قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهين:
الأول: بأن بين ما لصاحب هذا الاستهزاء من العقاب الشديد فقال: {لَوْ يَعْلَمُ الذين كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النار وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} قال صاحب الكشاف: جواب لو محذوف وحين مفعول به ليعلم أي لو يعلمون الوقت الذي يسألون عنه بقولهم: {متى هذا الوعد} وهو وقت صعب شديد تحيط بهم فيه النار من قدام ومن خلف فلا يقدرون على دفعها عن أنفسهم ولا يجدون أيضاً ناصراً ينصرهم لقوله تعالى: {فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ الله إِن جَاءنَا} [غافر: 29] لما كانوا بتلك الصفة من الكفر والاستهزاء والاستعجال ولكن جهلهم به هو الذي هونه عليهم وإنما حسن حذف الجواب لأن ما تقدم يدل عليه.
وهذا أبلغ ومثله: {وَلَوْ يَرَى الذين ظَلَمُواْ} [البقرة: 165]، {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ} [الأنفال: 50]، {وَلَوْ أَنَّ قُرْءَانًا سُيّرَتْ بِهِ الجبال} [الرعد: 31] وإنما خص الوجوه والظهور لأن مس العذاب لهما أعظم موقعاً ولكثرة ما يستعمل ذكرهما في دفع المضرة عن النفس ثم إنه تعالى لما بين شدة هذا العذاب بين أن وقت مجيئه غير معلوم لهم بل تأتيهم الساعة بغتة وهم لها غير محتسبين ولا لأمرها مستعدين فتبهتهم أي تدعهم حائرين واقفين لا يستطيعون حيلة في ردها ولا عما يأتيهم منها مصرفاً ولا هم ينظرون أي لا يمهلون لتوبة ولا معذرة، واعلم أن الله تعالى إنما لم يعلم المكلفين وقت الموت والقيامة لما فيه من المصلحة لأن المرء مع كتمان ذلك أشد حذراً وأقرب إلى التلافي، ثم إنه سبحانه ذكر الوجه الثاني في دفع الحزن عن قلب رسوله فقال: {وَلَقَدِ استهزئ بِرُسُلٍ مّن قَبْلِكَ فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون} والمعنى ولقد استهزئ برسل من قبلك يا محمد كما استهزأ بك قومك {فَحَاقَ} أي نزل وأحاط {بالذين سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ} أي عقوبة استهزائهم وحاق وحق بمعنى كزال وزل وفي هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى فكذلك يحيق بهؤلاء وبال استهزائهم.


{قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آَلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44)}
اعلم أنه تعالى لما بين أن الكفار في الآخرة لا يكفون عن وجوههم النار بسائر ما وصفهم به أتبعه بأنهم في الدنيا أيضاً لولا أن الله تعالى يحرسهم ويحفظهم لما بقوا في السلامة فقال لرسوله: قل لهؤلاء الكفار الذين يستهزءون ويغترون بما هم عليه: {مَن يَكْلَؤُكُم باليل والنهار} وهذا كقول الرجل لمن حصل في قبضته ولا مخلص له منه إلى أين مفرّك منى! هل لك محيص عني! والكالئ الحافظ.
وأما قوله: {مِّنَ الرحمن} ففيه مسائل:
المسألة الأولى: في معناه وجوه:
أحدها: {مَن يَكْلَؤُكُم مِنَ الرحمن} أي مما يقدر على إنزاله بكم من عذاب تستحقونه.
وثانيها: من بأس الله في الآخرة.
وثالثها: من القتل والسبي وسائر ما أباحه الله لكفرهم فبين سبحانه أنه لا حافظ لهم ولا دافع عن هذه الأمور لو أنزلها بهم ولولا تفضله بحفظهم لما عاشوا ولما متعوا بالدنيا.
المسألة الثانية: إنما خص هاهنا اسم الرحمن بالذكر تلقيناً للجواب حتى يقول العاقل: أنت الكالئ يا إلهنا لكل الخلائق برحمتك، كما في قوله: {مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الكريم} [الانفطار: 6] إنما خص اسم الكريم بالذكر تلقيناً للجواب.
المسألة الثالثة: إنما ذكر الليل والنهار لأن لكل واحد من الوقتين آفات تختص به والمعنى من يحفظكم بالليل إذا نمتم وبالنهار إذا تصرفتم في معايشكم.
أما قوله: {بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبّهِمْ مُّعْرِضُونَ} فالمعنى أنه تعالى مع إنعامه عليهم ليلاً ونهاراً بالحفظ والحراسة فهم عن ذكر ربهم الذي هو الدلائل العقلية والنقلية ولطائف القرآن معرضون فلا يتأملون في شيء منها ليعرفوا أنه لا كالئ لهم سواه ويتركون عبادة الأصنام التي لا حظ لها في حفظهم ولا في الإنعام عليهم.
أما قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مّن دُونِنَا لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلاَ هُمْ مّنَّا يُصْحَبُونَ} فاعلم أن الميم صلة يعني ألهم آلهة تكلؤهم من دوننا، والتقدير ألهم آلهة من تمنعهم. وتم الكلام ثم وصف آلهتهم بالضعف فقال: {لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ} وهذا خبر مبتدأ محذوف أي فهذه الآلهة لا تستطيع حماية أنفسها عن الآفات، وحماية النفس أولى من حماية الغير. فإذا لم تقدر على حماية نفسها فكيف تقدر على حماية غيرها، وفي قوله: {وَلاَ هُمْ مّنَّا يُصْحَبُونَ} قولان: الأول: قال المازني: أصحبت الرجل إذا منعته فقوله: {وَلاَ هُمْ مّنَّا يُصْحَبُونَ} من ذلك لا من الصحبة.
الثاني: أن الصحبة هاهنا بمعنى النصرة والمعونة وكلها سواء في المعنى يقال: صحبك الله ونصرك الله ويقال للمسافر: في صحبة الله وفي حفظ الله فالمعنى ولا هم منا في نصرة ولا إعانة، والحاصل أن من لا يكون قادراً على دفع الآفات ولا يكون مصحوباً من الله بالإعانة، كيف يقدر على شيء ثم بين سبحانه تفضله عليهم مع كل ذلك بقوله: {بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاء وَءابَاءهُمْ حتى طَالَ عَلَيْهِمُ العمر} يعني ما حملهم على الإعراض إلا الإغترار بطول المهلة. يعني طالت أعمارهم في الغفلة فنسوا عهدنا وجهلوا موقع مواقع نعمتنا واغتروا بذلك.
أما قوله تعالى: {أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِى الأرض نَنقُصُهَا} فالمعنى أفلا يرى هؤلاء المشركون بالله المستعجلون بالعذاب آثار قدرتنا في إتيان الأرض من جوانبها نأخذ الواحد بعد الواحد ونفتح البلاد والقرى مما حول مكة ونزيدها في ملك محمد صلى الله عليه وسلم ونميت رؤساء المشركين الممتعين بالدنيا وننقص من الشرك بإهلاك أهله أما كان لهم في ذلك عبرة فيؤمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ويعلموا أنهم لا يقدرون على الامتناع من الله وإرادته فيهم ولا يقدرون على مغالبته ثم قال: {أَفَهُمُ الغالبون} أي فهؤلاء هم الغالبون أم نحن وهو استفهام بمعنى التقرير والتقريع والمعنى بل نحن الغالبون وهم المغلوبون وقد مضى الكلام في هذه الآية في سورة الرعد.
وفي تفسير النقصان وجوه:
أحدها: قال ابن عباس ومقاتل والكلبي رضي الله عنهم ننقصها بفتح البلدان.
وثانيها: قال ابن عباس في رواية أخرى يريد نقصان أهلها وبركتها.
وثالثها: قال عكرمة: تخريب القرى عند موت أهلها.
ورابعها: بموت العلماء وهذه الرواية إن صحت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يعدل عنها وإلا فالأظهر من الأقاويل ما يتعلق بالغلبة فلذلك قال: {أَفَهُمُ الغالبون} والذي يليق بذلك أنه ينقصها عنهم ويزيدها في بلاد الإسلام، قال القفال: نزلت هذه الآية في كفار مكة فكيف يدخل فيها العلماء والفقهاء فبين تعالى أن كل ذلك من العبر التي لو استعملوا عقلهم فيها لأعرضوا عن جهلهم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8